تحميل رواية الحي الخطير pdf محمد بنميلود
كان مراد صغيراً حين اختطفوا خاله وأعدموه. لم يكن مجرماً ولا سوابق قضائية له. كل ما خلفه كرتونة مليئة بالكتب. قرأها كلها ليكتشف أن خاله كان عضواً في حركة ثورية أرادت قلب موازين الصراع الطبقي.
حاول أن يواصل مسيرة خاله على طريقته، أن ينتقل إلى طبقة النبلاء من دون حزب ولا منشورات سرّية أو تظاهرات. توقف عن الدراسة وبدأ يدخن الحشيش ويمارس السطو المسلح مع ابنَي حيّه المعدم، عبد الرحمن ورشيد، اللذين شكّل معهما عصابة خاضت صراعات دموية مع سائر العصابات في حيّهم البائس…
غير أن شجرة الشوك، في نهاية المطاف، لا تنبت سوى الأشواك
من رواية الحي الخطير
جن بصيغة الجمع: إن يمر شريط حياتك البائسة بكل فجائعه ومواجعه أمام عينيك وأنت قابع في زاوية معتمة من علبة الدماغ لا تحلم بغير الهروب من سجنك بما تبقى لك من قدرة على الحياة. أن تكون علبة الدماغ أوسعَ شكلٍ يمكن تصوره لسجن الحياة العظيم، أن تكون” حياتك” داخل علبة دماغ متقد مشتعل وهاج، أو تكون داخل علبة كارتون تختار فيها اللغة أن ترسو في دفاتر الأشعار وتحار فيها الأفكار بين رسائل العشاق الرومانسية وأحلام الثوار.
أن تكون” حياتك” على خط التماس بين ماركس وجبران، وبين النبي وما العمل، أن تكون موزعا بين شراسة رجل العصابة ورهافة قلب الأم، يعني ذلك أنك عشت داخل حي من أحياء مدينة تنكر أحياءها، حي كل داخل إليه مفقود لأن الحياة فيه جحيم وكل خارج منه مفقود لأن الخروج منه لا يكو ن إلا إلى السجن أو إلى المقبرة، إن وسعتك المقبرة ولم تتحلل جثتك في أعماق النهر.
ويعني ذلك أيضا أن الحياة كلها “بلد” أو “عالم” من ضفتين بينهما سور باطنه فيه العذاب، وفيه حرب تطحن بين فكي رحاها من لا يستطيع غرس النصل في ظهر خصمه، ومن لا يستطيع إلى النجاة سبيلا، وظاهره من قبله النعيم المجنح كطائر والمعرش المورق كالدوالي. ضفة عليا ” للتنابلة ” الأعلون على حد غناء الشيخ وضفة سفلى للحثالة وللمغلوبين وأهل القعر والقهر والهاوية. ضفة أولى لا تعمل سوى على تأبيد وضعها بقوة القانون والمساطر والتدابير، وضفة ثانية ليست تسعى سوى إلى الخروج من أوضاعها بقوة السكين والساطور و الدعارة والمخدر، ويعني ذلك أن يكون القانون سكين وساطور المرفهين والمحظوظين ويكون السكين والساطور قانونا عند المهزومين والمأزومين، وأن تكون في النهاية حياتك ـــــــ ومصيرك أيضا ــــــــ مجرد زنزانة انفرادية في حي من أحياء السجن الصغير. فتلك كلها حيوات أشبه ما تكون بحياة واحدة داخل سجن واحد هو أيضا مجرد سجن داخل سجن آخر حتى هو سجن داخل سجن أكبر من كل السجون، اسمه نفسك واسمه العالم.
لا أمل هاهنا سوى في أمل أن تستطيع الهروب من نفسك.
تلك هي حياة وذلك هو مصير مراد ولد السلاخ بطل “الحي الخطير” ورفاقه في السلاح الأبيض وفي خيبات الأمل.
2)ورطة الوجود:
داخل زنزانة انفرادية يسترجع مراد ولد السلاخ سيرة حياته. سيرة رفاقه و أهل حيه، سيرة حي/مدينة، سيرة مدينة/ بلد، سيرة بلد/ عالم يعود ليتكور على نفسه ويتقلص إلى حده الأدنى ليصير عصابة صغيرة تشق طريقها إلى الخلاص الفردي بحد السكين واليأس المطلق العظيم من أي غوث أو عون يأتي من العالمين. المهم هو الخروج من قعر الجحيم. ومن شرط اجتماعي أقرب ما يكون وأشبه ما يكون بورطة الوجود من قربه أو شبهه بشرط الوجود.
العالم سجن، البلد سجن، المدينة سجن، الحي سجن، والزنزانة الانفرادية سجن، وحدها علبة الدماغ قادرة على أن تجعل من كل هذه السجون مساحة لخيال جامح يعيد تركيب الحياة وإجراء الدماء في أوصال الموتى والقتلى والمنبوذين والمشوهين والسكارى والحشاشين، فدماغ مراد ولد السلاخ سجن أكبر من كل السجون، هذه حيلته وهذه وسيلته لكي يتخطى شرطه الاجتماعي القاهر. كل سجون الواقع ليست في الخارج، إنها في الداخل ، إنها في العقول، إنها في عقل مراد ولد السلاخ. القَلِق والمتوتر والمتحفز والمتسائل على الدوام.
عقله الفوار بالأفكار هو سجنه الوحيد، لأنه يعيش كل ما مر به ويفكر في كل ما سيأتي داخل علبة الدماغ… العالم كله سجين عقله، وهو قادر داخل كل واحدة من هذه الزنازين أن ينظر إلى الحقيقة الساطعة دون أن ترمش جفناه، لأنه صار يمتلك أداة النظر، لقد أصبح يمتلك الفكر القادر على التحليل والتشريح، ذلك الفكر الذي كان بعضه سجين كارتونة الخال ولم ينفع حامليه في تغيير الحال. ولم يرفع أحدا من القاع إلى القمة ولم يجعل الحثالة نبلاء، وإنما استفاد منه فقط من كانوا ولا شك يشدون برأس الخيط ويتحكمون في انسيابه من الكبة، وكانت الكبة بين أيديهم.
الخال عاش في البيضاء ودرس ما يكفي لكي يصبح مشروع مهندس، وفكر في الواقع كطالب جامعي وكمثقف يدرك الواقع من خلال الكتب، ويبحث عن الخلاص الجماعي من خلال الأفكار والنضال والتنظيم والشعب.
أما هو، مراد، فقد استوعب هذا الفكر وتمثله كما لا يستطيع أحد غيره أن يفعل ذلك، لقد استوعبه وتمثله مباشرة من خلال الواقع، ويحق له أن تكون له رؤيته ورأيه، وأن تكون له ثقافته التي تمثل واقعه منظورا إليه من الداخل.
لا فرق بين أحلام الخال الثوري المودعة في علبة كارتون ــــ فقد كان الخال يبحث عن الخلاص الجماعي ــــ وبين الأحلام الفردية لابن الأخت المودع في زنزانة انفرادية ولأقرانه الذين منهم من قضى نحبه بحد السكين ومنهم من ينتظر. ما أشبه الكارتونة بالزنزانة، لكن مراد لا يشبه الخال.
الأمل فقط هو ما يترك الحلم بالخلاص متقدا. وهل الخلاص الجماعي ممكن؟ أم أن الخلاص لا يكون إلا فرديا؟ وهل يكون بقوة التنظيم والشعب أم بقوة الساعد و السكين؟ الخال غاب إلى غير رجعة وغابت معه أحلامه، وابن الأخت يقبع في الزنزانة على شفى حفرة من الأمل. أو من خيبة الأمل، لا أحد يدري. متى وكيف يكون الهروب.
3) من قعر الجحيم:
أحداث رواية الحي الخطير تجري في الدماغ كاسترجاع للحياة وكمحاولة استئناف للأمل بعد أن جرت في الواقع كأحداث ومقادير.
مراد ولد السلاخ البطل السجين يسترجع أطوار حياته بعين ناقدة متفحصة، وبنظرة ثاقبة، وبقدرة غريبة على النفاذ إلى جوهر العلاقات وروحها بعيدا عن التصورات الجاهزة التي عبأت بها الكتب النظرية والأشعار والأدلوجات عقل الخال وعقول أقرانه وغير أقرانه من المستكينين المسالمين أو من المتطلعين إلى استبدال حال بحال… من المستلبين ومن المتنطعين على حد سواء.
الأمر كله يتعلق بالصراع الوحشي بين المركز والهامش وبين القمة والقاع. بين “جحيم الحثالة وجنة النبلاء”.
في القاع يعيش المنبوذون والمهمشون والمكسورون والمعصورون ومعطوبو النفوس. في القاع الحثالة من كل الأصناف، زوجات باغيات أمهات بلا أزواج، أولاد لقطاء، عصابات تتربص الواحدة منها بالأخرى، حشاشون وبائعو بودرة وبائعات هوى، منحرفون ومعتوهون. ولا صوت يعلو فوق ضربة السكين الغادرة أو الوشاية المودية إلى الهلاك أو هتك العرض على مرأى من العيون التي لا يملك أصحابها غير التصفيق للمنتصر والتضييق على المهزوم. لا صوت يعلو على القتل عمدا أو القتل غدرا أو القتل عبثا أو جنونا. قتل ضروري وموت مجاني، وتلك قمة المفارقات.
إنها الحرب في أقوى معانيها وفي أجلى صورها. حرب من أجل العيش، حرب من أجل الحياة ، حرب من أجل البقاء. دفاع شرعي عن النفس، عصابة ضد عصابة، إما أن تَقتل أو تُقتل، ولا حل وسط إلا لمن أراد أن يعيش حياة المهانة والذل.
اضرب بلا رحمة، ولا تشفق على عدوك. لا مكان هنا للعاطفة والشفقة. على أمل وحيد، أن يجد كل واحد مخرجا من بين فكي هذا الوحش ذي العشرات من الرؤوس والأنياب والأضراس، هذا الوحش المسمى بين أهله وعند الأغراب،حي أبي رقراق “دوار الدوم” أو أكواخا، أو قصديرا .
إنه القاع فعلا، إنه الهامش الذي لا يعرفه غير أهله، الهامش المجهول والمسكون بالأشباح وبالأهوال، الهامش الذي لم يسبق في عمل أدبي مغربي أن جابه طولا وعرضا وسكن سطوحه ومشى بين مزاريبه ودروبه أديب بالمقدرة نفسها التي استطاع بها محمد بنميلود أن يفعل، إنه تعريف بالهامش وقراءة لأوضاعه وتشريح لمآسيه يجمع بين جموح الخيال ودقة الوصف وسحر التشويق وانسياب اللغة مع التوثيق الدقيق للحقائق التاريخية والتوصيف الموضوعي للبناء الاجتماعي وللعلائق والناس. إنه شرح للهامش وفضح للمركز سواء كان ثقافيا أو اجتماعيا أو سياسيا، إنه دفاع عن الهامش وإدانة للمركز الأناني والذي لا يرى غير صورته في كل المرايا التي يريد أن يرى عليها وجه الحقيقة.
قريبا